موضوع: محاسبة النفس ضرورة مُلِحّة الثلاثاء مارس 30, 2010 10:15 am
عبد الله محمد العسكر
النفس بطبيعتها كثيرة التقلّب والتلوّن ، تؤثر فيها المؤثّرات ، وتعصف بها الأهواء والأدواء ، فتجنح لها وتنقاد إليها ، وهي في الأصل تسير بالعبد إلى الشرّ
كما قال تعالى : ] إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي [ [يوسف : 53] ، ولذا ؛ فإن لها خطراً عظيماً على المرء إذا لم يستوقفها عند حدّها ويلجمها بلجام التقوى
والخوف من الله ، ويأطرها على الحق أطراً . قال لقمان الحكيم لابنه : (يا بنيّ :
إن الإيمان قائد ، والعمل سائق ، والنفسَ حرون ؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن
الطريق ، وإن فتر قائدها حرنت ، فإذا اجتمعا استقامت . إنّ النفس إذا أُطمعت
طمعت ، وإذا فوّضْت إليها أساءت ، وإذا حملتها على أمر الله صلحت ، وإذا تركت
الأمر إليها فسدت ؛ فاحذر نفسك ، واتهمها على دينك ، وأنزلها منزلة من لا حاجة
له فيها ، ولا بُدّ له منها . وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق ، وإنّ
الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق : فما أحبّت منها أحبّ وما كرهت منها كره) [1] .
ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه ،
وأن يجلس معها جلسات طِوالاً ؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت : ماذا أودع
فيها ، ويعزم على استدراك ما فات ويشحذ همّته لسفره الطويل إلى الله تبارك
وتعالى .
أولاً : معنى المحاسبة :
قال الماوردي في معنى المحاسبة : (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من
أفعال نهاره ، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً
استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل) [2] . وقال ابن القيم رحمه الله :
(هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه ؛
لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود) [3] .
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله : (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل
الفعل والترك من العقد بالضمير ، أو الفعل بالجارحة ؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما
يترك ، فإن تبيّن له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه ، وكفّ جوارحه
عمّا كرهه الله عز وجل ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض ، وسارع إلى
أدائه) [4] .
ثانياً : أهمية محاسبة النفس :
لمحاسبة النفس فوائد متعدّدة نذكر منها ما يلي :
1 - الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها ، ومن ثمّ ؛ إعطاؤها
مكانتها الحقيقية إن جنحت إلى الكبر والتغطرس . ولا شك أن معرفة العبد لقدر
نفسه يورثه تذلّلاً لله فلا يُدِلّ بعمله مهما عظم ، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر . قال
أبو الدرداء : (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشدّ لها مقتاً) [5] .
2 - أن يتعرّف على حق الله تعالى عليه وعظيم فضله ومنّه ؛ وذلك عندما
يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله ، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل
مشين وقبيح ؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ،
ويتيقّن أنه من حقّه سبحانه أن يطاع فلا يعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر
فلا يُكفر .
3 - تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمْر الله تعالى . قال تعالى :
] قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [ [الشمس : 9 ، 10] ، وقال مالك
بن دينار : (رحم الله عبداً قال لنفسه : ألستِ صاحبة كذا ؟ ألستِ صاحبة كذا ؟ ثم
ذمّها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً) [6] .
4 - (أنها تربّي عند الإنسان الضمير داخل النفس ، وتنمّي في الذات الشعور
بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع) [7] . حكى
الغزالي في (الإحياء) أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة رضي الله عنها عند
الموت : (ما أحدٌ من الناس أحبّ إليّ من عمر) ثم قال لها : (كيف قلتُ ؟ ) فأعادت
عليه ما قال ، فقال : (ما أحدٌ أعزّ عليّ من عمر) ! ! يقول الغزالي : (فانظر كيف
نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبّرها وأبدلها بكلمة غيرها) [8] .
ثالثاً : فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك :
قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ [الحشر : 18] ، قال صاحب الظّلال : (وهو
تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه ، ومجرّد خطوره على القلب يفتح
أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته ، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها ،
وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة .
وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير
مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد ؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً
ورصيده من البرّ ضئيلاً ؟ ! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً ، ولا يكفّ عن
النظر والتقليب) [9] .
وقال تعالى : ] وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [ [القيامة : 2] يقول الفرّاء : (ليس
من نفسٍ برّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت : هلاّ
ازددتِ ، وإن عملت شرّاً قالت : (ليتني لم أفعل) [10] ، وقال الحسن في تفسير
هذه الآية : (لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه : ماذا أردتُ بكلمتي ؟ ماذا أردتُ
قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها . وتذكّر
الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد
والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها رضي الله عنه : (لو أنّه فُتح من
جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من
حرّها) [23] أجارنا الله والمسلمين منها .
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على
ارتكاب المعصية والذنب ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا ؟ ! نسأل الله
اللطف والتخفيف .
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله ، أو على أمرٍ مباح ، ما
سبب فعلِه له ؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة : لِمَ فعلتُ هذا الأمر ؟ أليس الخير في
تركه ؟ وما الفائدة التي جنيتها منه ؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي ؟ ونحو ذلك
من الأسئلة التي على هذه الشاكلة .
وأمّا المباح فينظر : هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي ؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة ؛ فيكون فعلي له
مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح ؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك
المباح ، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها ، أو كان
له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة ؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير
العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور .
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله : (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه
فيقول : واللهِ إنّي لأشتهيك ، وإنّك لمن حاجتي ؛ ولكن واللهِ ما من صلةٍ إليك ،
هيهات ! ! حيل بيني وبينك . ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه
فيقول : ما أردتُ إلى هذا ، وما لي ولهذا ؟ ما أردتُ إلى هذا ، وما لي ولهذا ؟ واللهِ
ما لي عذرٌ بها ، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله .
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في
الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ
عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك
كلّه) [24] .
وبالجملة ؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس ، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما
وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني .
ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي رحمه
الله حيث يقول : (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها : يا نفس ما أعظم جهلك ،
تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً ! ! أما تتدبرين قوله
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار : عمر ! !
أمير المؤمنين ! ! بخٍ بخٍ ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [26] .
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له : أَتَتْركون الخليفة حين يكون
فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه ؟ وضربه بالدرّة ، فانصرف الرجل
حزيناً ، فتذكّر عمر أنه ظلمه ، فدعا به وأعطاه الدرّة ، وقال له : (اضربني كما
ضربتُك) فأبى الرجل وقال : تركت حقي لله ولك . فقال عمر : إما أن تتركه لله
فقط ، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل : تركته لله . فانصرف عمر إلى منزله
فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه : (يا ابن الخطاب : كنتَ وضيعاً فرفعك الله ،
وضالاً فهداك الله ، وضعيفاً فأعزّك الله ، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على
دفع الظلم فظلمتَه ؟ ! ! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه ؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق
الناس عليه) [27] .
وقال إبراهيم التيمي : (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من
أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من
صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : يا نفس أيّ شيء تريدين ؟ فقالت : أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً ! قلتُ : فأنتِ في الأمنية فاعملي) [28] .
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال : كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل ، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه :
يا حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ
كذا ؟ ) [29] .
ونُقِل عن توبة بن الصّمة : (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو
ابن ستين سنة ، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم ؛ فصرخ
وقال : يا ويلتى ! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب ! فكيف وفي كل يوم عشرة
آلاف ذنب ؟ ! ! ثم خرّ فإذا هو ميّت ! ! فسمعوا قائلاً يقول : يا لكِ ركضةٌ إلى
الفردوس الأعلى) [30] . يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة : (فهكذا ينبغي أن
يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس ، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة
. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من
عمره ، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي ؛ والملكان يحفظان عليه ذلك ] أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ ... [ [المجادلة : 6] [31] .
ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال : متى بنيت هذه ؟
ثم أقبل على نفسه ، فقال : تسألين عمّا لا يَعْنيكِ ؟ ! لأعاقبنّك بصيام سنة ،
فصامها) [32] [33] .
وقال عبد الله بن قيس : كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو ، فَصِيحَ في الناس
فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح ، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه
ويقول : أيْ نفسي ! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي : أهلَكَ وعيالك ؟ ! ! فأطعتُك
(20) مقاصد المكلفين فيما يتعبّد به لربّ العالمين ، للدكتور عمر الأشقر (429) (بتصرّف) .
(21) إغاثة اللهفان (81) .
(22) مدارج السالكين 1/188 .
(23) الزهد للإمام أحمد (179) .
(24) حلية الأولياء 2/157 ، وذم الهوى (40) .
(25) الإحياء ، 4/605 .
(26) الزهد للإمام أحمد (171) .
(27) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن الجوزي ، 171 .
(28) الزهد للإمام أحمد ، 501 .
(29) الزهد للإمام أحمد ، 336 ، وذم الهوى ، 41 .
(30) الإحياء ، 4/589 .
(31) الإحياء ، 4/589 .
(32) حلية الأولياء ، 3/115 ، وذم الهوى ، 42 .
(33) والأوْلى في هذا المقام اتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي دلّنا على أن أفضل الصيام صيام داود -عليه الصلاة والسلام - ، وهو صيام يوم وإفطار يوم - البيان - .
(34) الإحياء ، 4/591 .
(35) مدارج السالكين ، 1/188 (بتصرّف) .
(36) الدّرَقَة : التّرس من جلدٍ ليس فيه خشب (المعجم الوسيط ، 1/281) .
(37) سير أعلام النبلاء للذهبي (11/210) . موقع طريق الدعوة